سورة يونس - تفسير التفسير الوسيط

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (يونس)


        


{إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)} [يونس: 10/ 24].
هذه الآية العظيمة تصوير للحياة والفناء العاجل، وقد تكرر هذا التشبيه أو التمثيل في القرآن الكريم في مناسبات عديدة، مثل قوله تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ (20)} [الحديد: 57/ 20].
وتوضيح هذا المثل كما يبدو فيما يأتي:
إنما مثل التّفاخر في الحياة الدنيا وزينتها بالمال والبنين، ثم أيلولتها إلى الفناء السريع، كمطر نزل من السماء، فاختلط بالتراب والنبات، فأنبت نباتات شتى، تشابكت واختلط بعضها ببعض، منها ما يأكله الناس من زروع وحبوب وثمار، ومنها ما تأكله الأنعام من علف ومراع وغير ذلك.
حتى إذا تكامل نمو النبات وازدهر، وأخذت الأرض حسنها وزينتها الفانية، وتزيّنت بأبهى أنواع الزينة، واكتسست الجبال والوديان والسهول بالأشجار الباسقة، والأزهار النّضرة، والحبوب والثمار اليانعة، مما يأكل الناس من الزروع والأشجار ونحو ذلك من المراعي والأعلاف، وازّيّنت، أي ظهرت زينتها، وأيقن أهلها الذين زرعوها أو غرسوها أنهم قادرون على جذاذها وحصادها والانتفاع بها. وبينما هم كذلك، مفتونون بحسن النّبات والثّمر والزهر، جاءتها صاعقة أو ريح شديدة باردة، فيبست أوراقها وتلفت ثمارها، ونزل بها القضاء المقدّر لهلاكها ليلا أو نهارا، فجعلها الله تعالى كالأرض المحصودة، لا خضرة ولا نضرة فيها، كأن لم تنبت، وكأنها لم تكن في حال حياة قبل ذلك، وهذا معنى قوله تعالى: {كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ} أي كأن لم تنعم ولم تنضر ولم تغر بغضارتها، وفي تفسير أبي بن كعب: وما كنا لنهلكها إلا بذنوب أهلها.
ثم ختم الله تعالى هذا المثل الرائع بقوله: {كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} أي كهذا المثل المبيّن الذي يوضح حال الدنيا وسرعة زوالها، نبيّن الحجج والأدلّة الدّالة على إثبات التوحيد والجزاء وكل ما فيه صلاح الناس في معاشهم ومعادهم، لقوم يتفكرون في آيات الله، أي يستعملون تفكيرهم وعقولهم في الاتّعاظ والاعتبار بهذا المثل في زوال الدنيا عن أهلها زوالا سريعا، مع اغترارهم بها، وتمكّنهم من خيراتها، علما بأن من طبع الدنيا الهرب ممن طلبها، والطلب لمن هرب منها.
والغرض الواضح من هذه الآية التحذير من الاغترار بالدنيا، إذ هي معرّضة للتّلف والزّوال بموت أو غيره من رزايا الدنيا. وخصّ المتفكّرين بالذّكر تشريفا للمنزلة، وليقع التّسابق إلى هذه الرتبة. فجدير بكل عاقل ألا يغتر بالدنيا، فإنها غرّارة زائلة، وليبادر إلى اغتنام أيام عمره فيها، فيعمل العمل الصالح، ويصحح العقيدة، ويؤمن بالله حقّ الإيمان، وينفع نفسه وأمّته ووطنه، ويخلّد سمعة طيبة إما بكلمة طيبة، أو بخير يفعله، أو منع من شرّ يدمّر حياته وحياة غيره.
التّرغيب في الجنّة والتّرهيب من النّار:
لم يترك القرآن المجيد خيرا إلا دعا إليه جميع البشر في كل زمان ومكان، ولم ير في شيء شرّا إلا حذّر منه ونفّر، وأعلن وأنذر، وجعل القرآن غاية للخير ومقصدا عامّا ألا وهو الجنّة، كما جعل مصير الشّر مصيرا شاملا ومحقّقا ألا وهو النار. وهذا دليل واضح على حبّ الله الخير والمصلحة لعباده، وإرادته تعالى إبعادهم من الشرور والمفاسد والمساوئ، لما فيها من ضرر مؤكد وتدمير محقق. قال الله تعالى مبيّنا هذا المنهج الإلهي في شرعة القرآن:


{وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (25) لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (26) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (27)} [يونس: 10/ 25- 27].
إذا كانت دعوة الإسلام إلى الإيمان بالله وحده دعوة عامّة لكل أجناس البشر، فإن الهداية التي هي الإرشاد مختصّة بمن قدّر إيمانه. ومعنى الآية: والله يدعو إلى الإيمان والعمل الصالح المؤدّيين إلى دار السّلام وهي الجنّة، وسميت الجنة بدار السلام، لأن من دخلها ظفر بالسّلامة والكمال، وأمن الفناء والآفات، وسلم من الشوائب والنقائص والأكدار.
ودعوة الله إلى دار السّلام وأمره بالإيمان عام لكل البشر، ولكنه سبحانه يختص أهل الإيمان بالهداية، أي بالإرشاد والتوفيق إلى الطريق القويم الموصّل إلى الجنّة، ولا أقوم ولا أهدى من شرعة القرآن والإسلام المتضمنة أصول العقائد والأخلاق والشرائع والأحكام. ومن المعلوم أن الهداية نوعان: هداية دلالة عامّة، وهي عامة لجميع الناس، وهي الدعوة إلى الإيمان والإسلام، وهداية توفيق وعناية، وهي خاصة بالمؤمنين، يوفقهم الله إلى طريق الاستقامة، ويعينهم على القيام بواجباتها وآدابها.
ودعوة القرآن إلى الدين الحق كالدعوة إلى مأدبة فاخرة، أخرج ابن جرير والحاكم وصححه والبيهقي وابن مردويه عن جابر رضي الله عنه قال: «خرج علينا رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم يوما فقال: إني رأيت في المنام كأن جبريل عند رأسي، وميكائيل عند رجلي، يقول أحدهما لصاحبه: اضرب له مثلا، فقال: اسمع سمعت أذنك، واعقل عقل قلبك، إنما مثلك ومثل أمتك كمثل ملك اتّخذ دارا، ثم بنى فيها بيتا، ثم جعل فيها مأدبة، ثم بعث رسولا يدعو الناس إلى طعامه، فمنهم من أجاب الرسول، ومنهم من تركه، فالله الملك، والدّار الإسلام، والبيت الجنّة، وأنت يا محمد الرّسول، من أجابك دخل الإسلام، ومن دخل الإسلام دخل الجنّة، ومن دخل الجنّة أكل منها».
والسبب في دعوة القرآن إلى الإسلام هو مراعاة مصلحة المدعوين، فإن للذين أحسنوا العمل في الدنيا بالإيمان والعمل الصالح: المثوبة الحسنى في الدار الآخرة، ولهم أيضا زيادة وهي النظر إلى وجه الله عزّ وجلّ. ولا يغشى وجوه أهل الجنّة شيء مما يغشى وجوه الكفرة من الغبرة التي فيها السواد، والهوان والصغار: {وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ} والقتر: الغبار المسودّ. أولئك هم مستحقّو الجنّة وأصحابها حقّا ووجوبا، ويقيمون فيها على الدوام من غير زوال، وهذا على جهة المدح لهم والتشريف.
وفي مقابل هؤلاء صنف آخر وهم الأشقياء الذين اقترفوا السّيئات وارتكبوا المنكرات من الكفر والشّرك والظّلم، فلهم جزاء عادل سيّئة مثل سيّئتهم، أي جزاء مناسب لمعاصيهم، وتعمّ السّيئات هنا الكفر والمعاصي، فسيّئة الكفر التّخليد في النار، وسيّئة المعاصي مرجع الجزاء فيها إلى الله تعالى، وتحيط بالكافرين والعاصين مذلّة وهو ان لا يعصمهم أحد من سخط الله وعذابه، كأنما ألبست وجوههم أغشية من سواد الليل المظلم، لفرط سوادها وظلمتها، أولئك المتّصفون بتلك الصفات هم لا غيرهم أصحاب النّار هم فيها خالدون، أي دائمون فيها، لا يزحزحون عنها.
والحاصل: أن مصير المؤمنين إلى نعيم في الجنان وخلود فيها، ومصير الكافرين إلى عذاب شديد في النّيران وتخليد فيها، والمرجع في أهل المعاصي إلى مشيئة الله تبارك وتعالى، إن شاء عذّبهم، وإن شاء غفر لهم.
مشهد من مشاهد الحشر:
جميع مشاهد القيامة عجيبة مذهلة، رهيبة مخوفة مؤلمة، لأن المصير مجهول، والحساب عسير، والنهاية أبدية، فإما إلى جنّة عرضها السماوات والأرض، وإما إلى نار شديدة اللهب والإحراق. ومن أبرز تلك المشاهد الفصل النهائي بين المشركين وآلهتهم المزعومة، والحوار الحادّ بين الفريقين، وهذا ما أوضحه القرآن المجيد في قوله تعالى:


{وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ (29) هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (30)} [يونس: 10/ 28- 30].
هذا مشهد رهيب من مشاهد الحشر يوم القيامة، حيث يجتمع الناس في صعيد واحد، وتحسم فيه المواقف، وتتبدّد مزاعم المبطلين. يقول الله لنبيّه: اذكر أيها الرسول يوم نجمع أهل الأرض كلهم من الجنّ والإنس، والبرّ والفاجر، والمحسن والمسيء، ثم نقول لأهل الشّرك: الزموا مكانكم، وذلك مقترن بحال الشّدة والخزي، أنتم وشركاؤكم، لا تبرحوا المكان حتى تنظروا ماذا يفعل بكم، ففرقنا بين الشركاء والمشركين، وقطعنا ما كان بينهم من الصّلات والعلاقات.
يقف المشركون عبدة الأوثان يوم القيامة، في موقف الخزي، مع أصنامهم، ثم ينطق الله الأصنام بالتّبري منهم، فيقول الشّركاء وهم الذين يزعم الوثنيّون أنهم شركاء لله، يقولون لعابديهم: ما كنتم تخصوننا بالعبادة، إنما كنتم تعبدون الشياطين حيث أمروكم أن تتخذوا لله أندادا، فوافقتموهم وأطعتموهم. وفي هذا تهديد ووعيد، وبيان انقطاع الأمل في شفاعة الشركاء.
والشّركاء: إما الملائكة أو عيسى أو الأصنام التي ينطقها الله تعالى، وكل ما عبد من دون الله تعالى، من صنم أو وثن أو شمس وقمر، أو ملك وإنسيّ وجنّي. فكفى بالله شاهدا وحكما عدلا بيننا وبينكم أنّا ما دعوناكم إلى عبادتنا، ولا أمرناكم بها، ولا رضينا منكم بذلك. وهذا تبكيت عظيم للمشركين، وتهديد في حقّ العابدين.
إننا كنّا في غفلة تامّة عن عبادتكم، لا ندري بها، ولا ننظر إليها، ولا نرضى عنها.
هنالك في موقف الحساب يوم القيامة تختبر كل نفس وتذوق وتعلم ما قدمت من العمل من خير وشرّ، فتعرف كيف هو، أقبيح أم حسن؟ كما يختبر الرجل الشيء ويتعرفه، ليتبين حاله.
وأرجعوا إلى عقاب الله وشديد بأسه، ورجعت الأمور كلها إلى الله الحكم العدل، الحقّ الثابت الدّائم، ففصّلها، وأدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، دون تلك الشركاء والأنداد الأصنام. وهذا يبين أن الله مولى المشركين في الملك والإحاطة لا في الرحمة والنصر ونحوه.
وذهب عن المشركين افتراؤهم وما كانوا يعبدون من دون الله افتراء عليه، ويتخذون تلك الأنداد آلهة مزعومة، ولم يبق لهم نصير ولا شفيع، والأمر كله يومئذ لله تعالى. وهذا تنبيه على زوال ما يدعون أن تلك الشركاء شفعاء لهم عند الله، وأن عبادتهم تقرّب إلى الله تعالى.
إن ما يلاقيه المشركون من خيبة الأمل بالأصنام ونحوها من المعبودات تبرهن للعقلاء أن السلطان في الحساب والثواب والعقاب لله وحده. وإذا كان الله وحده هو المحاسب للناس، فهو المعبود بحق، وما على الناس قاطبة إلا أن يوجهوا أنفسهم نحو ما يفيد، ويمنع الضّرر، وأنه لا شفاعة إطلاقا للأصنام ونحوها، فهي تعلن البراءة من عابديها ومن عبادتهم الباطلة.
ألا فليستيقظ الضمير والعقل البشري، وليعلم أن من بيده الخلق والرزق، والإحياء والإماتة، والحساب والثواب والعقاب، هو الجدير بالعبادة والتعظيم، والتّنزيه والتّقديس، وطلب المدد منه سبحانه وتعالى.
مناقشة المشركين في وحدانيّة الله:
ما من إنسان سوي عاقل إلا ويحسّ في أعماق نفسه بوجود الله الخالق، ولا بدّ من أن يمرّ في خاطره يوما ما ومضة من تفكير أو شعور مرهف بأنه بأشد الحاجة إلى قدرة الله في تفريج كربه، ونجاته من محنته، وهذا ما كان مستقّرا في أذهان المشركين الوثنيّين وعقائدهم، فإنهم كانوا يقرّون بوجود الله تعالى، ولكنهم كانوا يسيئون التّصوّر، فلا يوحّدون الله، وإنما ينسبون إليه الشّركاء من الأوثان والأصنام وغيرها، وهذا غاية الانحدار والهبوط في الفكر والتّصور والاعتقاد، لذا ردّ الله عليهم في هذه الآيات لإثبات توحيد الألوهية وتوحيد الرّبوبية معا من غير انفصال:

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8